[ الرحمن : ٣٩ ].
فأجابوا بوجوه :
أولها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، بل سؤال تقريع، فيقال لهم : لم فعلتم كذا؟.
وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] سؤال استفهام، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم « يَومئِذٍ » فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات.
وثانيها : أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة، يوم طويل، وفيه مواقف يسألون في بعضها، ولا يسألون في بعضها، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥ ]، وقال في آية أخرى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [ الزمر : ٣١ ].
ولقائلٍ ِأن يقوله : قوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] الآية : تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم، لحصل التَّناقض.
وثالثها : أن قوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] تفيد الآية النَّفي، وفي قوله ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ﴾ يعود إلى المقتسمين، وهذا خاص فيقدم على العام.
قوله :﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ أصل الصَّدع : الشَّقُّ، صدعته فانصدع، أي : شَقَقتهُ، فانْشَقّ.
قال ابن السكِّيت : الصَّدعُ في اللغة : الشَّقٌّ، والفصل؛ وانشد لجرير :[ البسيط ]

٣٢٩٤ هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ
ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [ الروم : ٤٣ ] وقال :[ الوافر ]
٣٢٩٥..................... كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ
والصَّديعُ : ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه، يقال : انْصدعَ، وانْفلقَ، وانْفجرَ، وانْفطرَ الصُّبحُ، ومعنى « فَاصدَعْ » فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما.
وقال الراغب : الصَّدعُ : الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج، والحديد، وصدّعته بالتشديد، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف، فانْصَدعَ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه، وصدع الفلاة، أي : قطعها، من ذلك، كأنَّه تونهم تفريقها.
ومعنى « فاصْدَعُ » اقل ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : أظهر.
وقال الضحاك : أعلم. وقال الأخفش : فرِّق بين الحقِّ والباطل، وقال سيبويه : اقْضِ.
و « مَا » في قوله « بِمَا تُؤمَرُ » مصدرية، أو بمعنى الذي، والأصل تؤمر به، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه، فحذف العائد فيصح، وليس هو كقولك : جَاءَ الذي مررتُ، ونحوه :[ البسيط ]
٣٢٩٦ أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ ..............................
والأصل : بالخَيْرِ.
وقال الزمخشريُّ :« ويجوز أن تكون » مَا « مصدرية، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول » انتهى.
وهو كلامٌ صحيحٌ، والمعنى : فاصدع بأمرك، وشأنك.
قالوا : وما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.
ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به « أنْ »، والفعل المبني للمفعول.
ثم قال أبو حيان :« والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز ». قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز.


الصفحة التالية
Icon