وأمَّا الغذاء النباتيُّ، فقسمان : حبوب، وفواكه : أمَّا الحبوب، فإليها الإشارة بقوله :« الزَّرْعَ »، وأما الفواكه، فأشرفها : الزيتونُ، والنَّخيلُ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ، ومنافع الهنِ كثيرة : للأكلِ، والطلاءِ، وإشعالِ السِّراج.
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل، ثم وصف البقية بقوله تعالى :﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٨ ] فكذلك ههنا، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في وصف البقية :﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها، وأجناسها، وصفاتها، ومنافعها، ما لم يكن ذكره، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ، ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ، وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق، والأزهارُ، والأكمام، والثمار، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة، ونسبة التأثيرات الفلكية، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة، فمع تشابه هذه الأشياء، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ.
وختم هذه الآية بقوله :﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء، فأنبت به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا ختم الآية بقوله :﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :
الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ، فلو كان الجسم علَّة لصفة، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ.