« هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ »، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما.
قوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ] على وجود إله قادرٍ حكيم، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم، ولا يعقل؟.
فلهذا قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ هذه الأشياء التي ذكرناها ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ ﴿ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح، فهذه الأصنام جمادات محضة، ليس لها فهمٌ، ولا قدرة ولا غحساس، فكيف تعبدونها؟.
قوله ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ إن أريد ب ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ جميع ما عبد من دون الله، كان ورود « مَنْ » واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره، فيعبر عن الجميع ب « مَنْ » ولو جيء أيضاً ب « ما » لجاز، وإن أريد به الأصنام، ففي إيقاع « مَنْ » عليهم أوجهٌ :
أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها، واعتقادِ أنَّها تضرُّ، وتنفع كقول الشاعر :[ الطويل ]
٣٣٠٨- بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي... فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ

أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ
فأوقع « مَنْ » على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني : المشاكلة بينه وبين « مَنْ يَخْلقُ ».
[ الثالث : تخصيصه بمن يعلم، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين « مَنْ لا يخلقُ » من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع « مَنْ » على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري - C- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله تعالى، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾.


الصفحة التالية
Icon