وقيل : كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾ [ النمل : ١٠، القصص : ٣١ ].
( و « تسعى » ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة ل « حَيَّةً » فلما عاين موسى ذلك « وَلَّى مُدْبِراً »، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي :« خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا » ( وهيبتها ) « الأُولَى » أي نردها عصا كما كانت. قوله :« سِيرَتَهَا » في نصبها أوجه :
أحدها : أن تكون منصوبةً على الظرف، أي في سيرتها أي : طريقتها.
الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من « ها » « سَنُعِيدُهَا » بدل اشتمال لأن السيرة الصفة، أي سنعيدها صفتها وشكلها.
الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه، فيتعدى لمفعولين، ومنه بيت زهير :
٣٦٥٢- وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ... وهذا هو ( معنى قول من قال : إنه على إسقاط ( إلى ) و ) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة ( في ) إلا فيما ( شذ. والسيرَةُ ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة، قال خالد الهذلي :
٣٦٥٣- فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا | فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا |
فإن قيل : لمَّا نوديَ يا موسَى، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه -عليه السلام- ما شاهد مثل ذلك قط، وهذا معلوم بدلائل العقول. قال أبو القاسم الأنصاري : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة.
وثانيها : خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها.
وثالثها : أن مجرد قوله « وَلاَ تَخَفْ » لا يدل على حصول الخوف كقوله :﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين ﴾ [ الأحزاب : ١، ٤٨ ] لا يدل على وجود تلك الطاعة، لكن قوله :﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً ﴾ [ النمل : ١٠، القصص : ٣١ ] يدل عليه.
فصل
قال المفسرون : كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان. فلما قال له :« خُذْهَا » لف طرف المَدْرَعَةِ على يده، فأمره الله أن يكشف يده، فكشف. وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً؟ فقال : لا ولكني ضعيف، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ، فكشف يده، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ. واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت.