واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له.

فصل


قال هاهنا :﴿ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى ﴾، وقال في سورة الشعراء :﴿ وَمَا رَبُّ العالمين ﴾ [ ٢٣ ]، وهو سؤال عن الماهية، فهما سؤالان مختلفان، والواقعة واحدة، والأقرب أن يقال : سؤال « مَنْ » كان مقدماً على سؤال « مَا »، لأنه كان يقول : أنا اللهُ والرَّبُّ، فقال :« فَمَنْ رَبُّكُما »، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام، لظهوره وجلائه، عدل إلى طلب الماهية، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره؛ وشرع في المقام الصعب، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
قوله :« قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا » ولم يقل :« فَمَن إلَهُكُمَا » لأنه أثبت نفسه رباً في قوله :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ [ الشعراء : ١٨ ]، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم ﴿ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] قال نمروذ :﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى -عليه السلام- ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام، أي : أنا الرَّبُّ الذي ربيتك، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.

فصل


استدل موسى عليه السلام- على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وهو قوله :﴿ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد -عليه السلام- في قوله :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ١، ٢، ٣ ] وقال إبراهيم -عليه السلام- :﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٧، ٧٨ ].
واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] إلى أن قال :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة :
أحدها : أنَّ الطبيعي يقول : الثقيل هابط، والخفيف صاعد، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء، وأخفها النار ثم الهواء، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر، وهما أيْبَسُ ما في البدن، وهما بمنزلة الأرض، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب، وهي بمنزلة النار، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة.


الصفحة التالية
Icon