وهذا لفظ فيكون خامساً. والنُّهَى : العقل سُمِّي لعقل به، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح.

فصل


لما ذكر موسى -عليه السلام- الدلالة الأولى، وهي ( دِلاَلَةٌ عامَّة « تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال :» الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً « أي جعلها بحيث يتصرف العباد، وغيرهم عليها من النوم، والقُعُود، والقِيَام، والزراعة، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ].
﴿ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ السَّلْكُ : إدخال الشيء في الشيء، أي : أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها.
قال ابن عباس : سَهَّل لكم فيها طرقاً. ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ تقدم الكلام فيه في البقرة »
فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً « تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره : يقول ربِّي الذي دعل كذا وكذا » فأخْرَجْنَا « نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة » أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ «.
وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى -عليه السلام-، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام، فثبت أنه كلام الله تعالى.
وقوله :»
أزْوَاجاً « أي أصنافاً سميت بذلك، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض. » شَتَّى « مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
»
كُلُوا « أمر إباحة. » وَارْعَوْا أنْعَامَكُمْ « تقول العرب : رَعَيْتُ الغنمِ فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى. » إنَّ في ذَلِكَ « أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم » لآيَاتٍ « لعبرة ودلالات. » لأُولِي النُّهَى « لذوي العقول.
( قال الضحَّاك ) »
لأُولِي النُّهَى « الذي ينتهون عما حرم الله عليهم.
وقال قتادة : لذَوِي الورع.
قوله تعالى :»
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « الآية، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة، فقال :» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « أي من الأرض.
فإن قيل : إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم -عليه السلام- من تُرابٍ كما قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] حسن إطلاق ذلك علينا.
الثاني : أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدَّان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي، والنبات إنما يحدث من المتزاج الماء والتراب، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.
الثالث : روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه، والأرض التي يُدْفَن فيها، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة، ثم يدخلها في الرحم. ثم قال :﴿ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ أي عند الموت، ﴿ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى ﴾ عند البعث.


الصفحة التالية
Icon