( فصل )
قوله :﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ﴾ اعلم أن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أنْ يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله وبرسوله ففي الحال ألقى هذه الشبهة في النبي، وهي مشتملة على التنفير من وجهين :
الأول : أن الاعتماد على أول خاطر لا يجوز بل لا بد فيه من البحث، والمناظرة، والاستعانة بخواطر الغير، فلمَّا لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال « آمَنْتُمْ لَهُ » دَلَّ ذلك على أن إيمانكم ليس عن بصيرة بل لسبب آخر.
والثاني : قوله :﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ﴾ يعني : أنكم تلامذته في السحر، فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه. ثم بعد إيراد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان، وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم، فقال :﴿ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾.
قوله :« لأُقَطِّعَنَّ » تقدم نحوه، و « مِنْ خِلاَفٍ » حال أي مختلفة و « مِنْ » لابتداء الغاية، وتقدم تحرير هذا، وما قرئ به وقوله :« فِي جُذُوعِ النَّخْلِ » يحتمل أن يكون حقيقة، ففي التفسير أنه نَقَّر جذوع النخل حتى جوَّفَها ووضعَهُم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً وأن يكون مجازاً، وله وجهان :
أحدهما : أنه وضع ( في ) مكان ( عَلَى )، والأصل : على جذوع النخل، كقول الآخر :
٣٦٧٥- بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ | يُحْذَى نِعَالَ السَّبْتِ لَيْسَ ( بتَوْأَمِ ) |
٣٦٧٦- وَقَدْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ | فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلاَّ بِأَجْدَعَا |
فإن قيل : إنَّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيَّة عظيمة، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون، وآلَ الأمرُ إلى أنْ استغاثَ بموسى من شر ذلك الثعبان، فمع قرب عهده بذلك، وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزئ بموسى، ويقول :« أيّنا أَشَدُّ عذاباً » ؟
فالجواب : يجوز أن يقال : إنَّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنَّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشيةٌ لِنَامُوسِهِ، وترويجاً لأمره.