وقال أبو البقاء : فإنْ كانَ قد قُرِئَ بالرفع فهو خبر « إن » يعني لو قرئ برفع « الحَيَاةُ » لكان خبراً ل « إنَّ »، ويكون اسمها حينئذ « مَا » وهي موصولة بمعنى الذي، وعائدُها محذوف تقديره : إن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا لا غيرها.
قوله :« وَمَا أَكْرَهْتَنَا » يجوز في « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها موصولة بمعنى « الَّذِي »، وفي محلها احتمالان :
أحدهما : أنَّها منصوبة المحل نسقاً على « خَطَايَانَا » أي ليغفرَ لنا أيضاً الذي أكرهتنا. والاحتمال الثاني : أنَّها مرفوعة المحل على الابتداء، والخبر محذوف تقديره : والذي أكرهتَنا عليه من السحر محطوط عنا، أو لا يؤاخذ به ( ونحوه )
والوجه الثاني : أنَّها نافية، قال أبو البقاء : وفي الكلام تقديم تقديره : ليغفر لنا خَطَايَانَا من السحر ولم تكرهنا عليه. وهذا بعيد عن المعنى، والظاهر هو الأول. و « مِنَ السِّحْرِ » يجوز أن يكون حالاً من الهاء في « عَلَيْه » أو من الموصول. ويجوز ان تكون لبيان الجنس.
فصل
قال المفسِّرون : لَمَّا علم السحرة أنهم متى أصرُّوا على الإيمان أوقع بهم فرعون ما أوعدهم به فقالوا :« اقْضِ مَا أْنْتَ قَاضٍ » لا على وجه الأمر، لكن أظهروا أنَّ ذلك الوعيد لا يزيلهم عن إيمانهم البتة، ثم بيَّنُوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك، فقالوا :﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ ﴾ أي قضاؤك وحكمك أن يكون في هذه الحياة ( الدنيا ). وهي نافية تزول عن قريب، ومطلوبنا سعادة الآخرة، وهي باقية. والعقل يقتضي تحمل الضَّرَر الفاني للتوصل إلى السعادة الباقية. ثم قالوا :﴿ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ﴾، ولمَّا كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا :﴿ وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر ﴾، وفي ذلك الإكراه وجوه :
الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : إنَّ ملوك ذلك الزمان كانوا يأخذون بعض رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر، فإذا شاخ أحدهم بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقتٍ مَنْ يُحسنه، فقالوا ذلك أي : كُنَّا في التعلم الأول والتعليم ثانياً تكرهُنَا، وهو قول الحسن. وقال مقاتل : كانت السَّحَرةُ اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل كان فرعون أكرههم على تعليم السحر. وقال عبد العزيز بن أبان : قالت السحرة لفرعون أَرِنَا مُوسَى إذا نام، فأراهم نائماً، فوجدوه تحرسه عصان، فقالوا لفرعون : إن هذا ليس بسحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعارضوه.
وقال الحسن : إن السحرةَ جَرُوا من المدائن ليعارضوا موسى فأحْضَرُوا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور لقوله :﴿ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٣٦، ٣٧ ]
وقال عمرو بن عبيد : دعوة السلطان إكراه. وهذا ضعيف، لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراهاً. ثم قالوا :﴿ والله خَيْرٌ وأبقى ﴾ قال محمد بن إسحاق : خَيْرٌ منكَ ثواباً، وأبقَى عقاباً لمن عصاه.
وقال محمد بن كعب : خيرٌ منكَ إن أطيع وأبْقَى عذاباً منك إن عُصِي.
( وهذا جواب لقوله :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى ﴾ ).