وعن عليٍّ - رضي الله عنه- أنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا نزل ليذهب موسى إلى الطور أبصره السَّامريّ من بين الناس.
واختلفُوا في أنه كيف اختص السامريُّ برؤية جبريل ومعرفته بين الناس؟
فقال ابن عبَّاس في رواية الكلبي : إنَّما عرفه، لأنه رآه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولجتْ طرحتْ ولدَها حيث لا يشعر به آل فرعون، فيأخذ الملائكة الولدان ويربونَهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامريُّ ممن أخذه جبريل - عليه السلام-، وجعل كفَّ نفسه في فيه وارتضع منه اللبن والعسل ليربيه- فلما قضي على يديه من الفتنة فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه.
قال ابن جريج : فعل هذا قوله :﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾ يعني رأيت ما لم يروه. ومَنْ فسّر الإبصار بالعلم فهو صحيح، ويكون المعنى علمتُ أن تراب فرس جبريل - عليه السلام- له خاصة الإحياء، وذلك أنه كان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه في مشيه على الطريق اليبس يخرج تحته النبات في الحال.
وقال أبُو مسلم : ليس في القرآن تصريح بما ذكره المفسرون فهنا وجه آخر، وهو أن يكون المرادُ بالرسول موسى - عليه السلام-، وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل : إنَّ فلاناً يقفُوا أثرَ فلان يقتص أثرَه إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أنَّ موسى - عليه السلام- لمَّا أقبل على السامريِّ باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العَجْل فقال :﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾ أي عرفت أن الذي أنتم عليه ( ليس بحق )، وقد كنت قبضتُ قبضةٌ من أثرك أيُّها الرسولُ أي : شيئاً من دينك، فنبذته أي : طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى - عليه السلام - بما له من العذاب في الدُّنيا والآخرة، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقولُ الأميرُ في كذا، أو بماذا يأمرُ الأمير. وأما ادِّعاؤُه أنَّ موسى - عليه السلام- رسول مع جحده وكفره فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله :﴿ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ وإن لم يؤمنوا بالإنزال.
قال ابن الخطيب : وهذا الذي ذكره أبو مسلم ( ليس فيه إلاَّ أنَّه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :
أحدها : أن جبريل - عليه السلام - ليس معهوداً باسم الرسول، ولم يجز له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أنَّ السامريّ كيف اختصَّ من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، ثم كيف عرف أن تراب حافر دابته يؤثر هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل - عليه السلام- هو الذي ربَّاه فبعيد، لأن الاسمريِّ إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أنَّ موسى - عليه السلام- نبيٌّ صادقٌ، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأنَّى ينفعه كون جبريل - عليه السلام - ( مربيّاً له ) حال الطفولية في حصول تلك المعرفة.


الصفحة التالية
Icon