وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - ﷺ - :« كَتَبَ الله مَقَادِير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعَرْشُهُ على الماء » وقال :« كل شيء خلقه بقدر حتى العَجْز والكَيْسُ » قوله :« فَأكَلاَ مِنْهَا » يعني آدم وحواء. ﴿ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾.
قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما. وإنما جمع « سَوْآتِهِمَا » كما قال « » صَغَتْ قُلُوبُكُمَا «.
﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة ﴾ قال الزمخشري : طَفِقَ بفعل كذا مثل جعل يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة. وقرئ »
يُخَصِّفان « للتكثير والتكرير من خصف النعل، وهو أن يخرز عليها الخصاف، أي : يلزقان الورق بسوآتهما للتستر، وهو ورق التين. قوله :﴿ وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ ﴾ بأكل الشجرة » فَغَوى « أي » فعل ( ما لم يكن له فعله ). وقيل : أخطأ طريق الجنة وضلَّ حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده.
وقال ابن الأعرابي : أي : فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عَصَى آدمُ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاصٍ ولا يقال : هو خياط ( حتى يعاوده ويعتاده ).
قوله :« فَغَوَى » الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها.
وقيل : معناه بشم من قولهم : غوي البعير بكسر الواو والياء إذا أصابه ذلك. وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى.
قال الزمخشري : زعم بعضهم « فَغَوى » فَبَشَم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً، فيقول في فَنِيَ، وبَقِيَ : فَنَا وَبَقَا، وهم بنو طيئ تفسير خبيث.
قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع على أنه قرئ بكسر الواو، ولو اطلع عليها لردها، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم -عليه السلام- إلى الغي.

فصل


تمسك بعضهم بقوله :﴿ وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ﴾ في صدور الكبيرة عنه من وجهين :
أحدهما : أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة، ولقوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾ [ الجن : ٢٣ ] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه.
الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه.
وأجيب عن الأول : بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب، فإنك تقول : أمرته فعَصَاني، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب، والعرف يدل على أنه اسم ذم، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب.


الصفحة التالية
Icon