واختار أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى، فقال : وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله، ومفعول يبين محذوف، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة، ثم قال :« كَمْ اهْلَكْنَا » أي : كثيراً أهلكنَا، ف « كَمْ » مفعولة ب « أهْلَكْنَا » والجملة كأنها للمفعول المحذوف ل « يَهْدِ ».
قال القفَّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً. وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن السلمي « أَفَلَمْ نَهْدِ » بالنون المؤذنة بالتعظيم. قال الزجاج : يعني أفَلَمْ نبيَِّن لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا.
وقوله :« كَمْ أَهْلَكْنَا » فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية. قوله :« مِنَ القُرونِ » في مجحل نصب ( نعت ل « كَمْ » ) لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين و « مِن » داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه.
قوله :« يَمْشُونَ » حال من « القُرونِ »، أو من مفعول « أَهْلَكْنَا » والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة، ومعناه : إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله :﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « لَهُمْ »، والضمير في « يَمْشُونَ » على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في « لَهُمْ » وهم المشركون المعاصرون لرسول الله -صلى الله عيله وسلم- والعامل فيها « يَهْدِ ». والمعنى : إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم.
وقرأ ابن السميفع « يُمَشَّوْنَ » مبنيًّا للمفعول مضعفاً، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.

فصل


المعنى : أَو لَمْ نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير لكفَّار مكة ﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ ديارهم إذا سافَرُوا. والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر، وثَمُود، وقرى لوط ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى ﴾ لذوي العقول. ثم بيَّن تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كفر بمحمد -عليه السلام- فقال :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ ( وفيه تقديم وتأخير )، والتقدير : ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجل مسمى لكانَ لزاماً.
والكلمة في الحكم بتأخير العذاب عنهم أي : وَلَوْلاَ حكمٌ سبقت بتأخير العذاب عنهم « وَأَجَلٌ مًسَمًّى » هو القيامة، ( وقيل : يَوْمَ بَدْر ). قوله :« وَأَجَلٌ مُسَمًّى » في رفعه وجهان :
أظهرهما : عطفه على « كَلِمَةٌ »، أي : ولوْلاَ أجلٌ مُسَمًّى لكان العذاب لزاماً لهم.


الصفحة التالية
Icon