وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل. قال ابنُ الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ، لا بالحقيقةِ، ولا بالمجازِ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم، والكبير، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول -E- أو الملائكة، أو الجنَّة، أو النَّار، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً.

فصل في المراد بقوله تعالى :﴿ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾


يحتملُ أن يكون المراد من قوله ﴿ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾ أنه عنى عبدهُ زكريَّا، ثم في كونه رحمة وجهان :
أحدهما : أن يكون « رحْمة » على أمَّته؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة.
والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد -E- وعلى أمَّته؛ لأنَّ الله تعالى، لمَّا شرع لمحمَّد ﷺ طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى، وصار ذلك لطفاً داعياً له، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة.
ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا.
قوله :﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾.
في ناصب إذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ « ذِكْرُ »، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره.
والثاني : أنَّه « رَحْمَة » وقد ذكر الوجهين أبو البقاء.
والثالث : أنَّه بدلٌ من « زكريَّا » بدل ُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله ﴿ واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ ﴾ [ مريم : ١٦ ] ونحوه.

فصل في أدب زكريا في دعائه


راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان، وكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء، وأدخلُ في الإخلاص.
وقيل : أخفاه؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل : أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم.
وقيل : خِفْتُ صوتهُ؛ لضعفه، وهرمه، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ : صوتهُ خفاتٌ، وسمعهُ تارات. فإن قيل : من شرط النِّداء الجهر، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّ؟.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر، فكان نداءً؛ نظراً إلى القصد، خفيًّا نظراً إلى الواقع.
الثاني : أنَّه دعاه في الصَّلاة؛ لأنَّ الله تعالى، أجابه في الصَّلاة؛ لقوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا.
وفي التفسير :« إذْ نَادَى » : دعا « ربَّه » في محرابِهِ.
قوله :﴿ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾ دعا سرًّا من قومه في جوف الليل.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي ﴾ الآية.


الصفحة التالية
Icon