وقال ابن مسعود ومقاتل : إن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان، وأفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى له بالغنم، لأن لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت وذكر باقي القصة. قال ابن عباس : حكم سليمان ذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وأما حكم الإسلام : أنّ ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها، لأنَّ في عرف الناس أنَّ أصحاب الزروع يحفظونها بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح.
« روى ابن محيصة أنّ ناقة لِلْبَرَاء بن عازِب حائطاً فَأَفْسَدَتْ، فقضى رسول الله - ﷺ - » أَنَّ على أَهْل الحَوَائِط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضَامِنٌ على أهْلِهَا «.
وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما اتلفت الماشية ليلاً كان أو نهاراً.
فصل
قال أبو بكر الأصم : إنهما لم يختلفا في الحكم ألبتة، وأنه تعالى بين لهما الحكم على لسان سليمان. والصواب أنهما اختلفا، ويدل على إجماع الصحابة -Bهم- وأيضاً قوله تعالى :﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾، ثم قال :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ والفاء للتعقيب، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا الفهم، وذلك الحكم السابق إن اتفقا فيه لم يبق لقوله ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ فائدة. وإن اختلفا فيه فهو المطلوب.
فصل
احتج الجبائي على أنّ الاجتهاد غير جائز من الأنبياء بوجوه :
الأول : قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾ [ يونس : ١٥ ] وقوله :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ﴾ [ النجم : ٣ ].
الثاني : أنّ الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على اليقين، فلا يجوز المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز الاجتهاد.
الثالث : لو جاز له الاجتهاد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها، فلما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دلّ على أنّ الاجتهاد غير جائز عليه.
الرابع : أنّ الاجتهاد إنما يصار إليه عند فقد النص، وفقد النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد.
الخامس : لو جاز الاجتهاد من الرسول أيضاً من جبريل، وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله أم من اجتهاد جبريل؟
وأجيب عن الأول : أنّ الآية واردة في إبدال آية بآية، لأنه عقيب قوله :﴿ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ ﴾ [ يونس : ١٥ ] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك.
وأما قوله :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ﴾ [ النجم : ٣ ] فمن جوَّز له بالاجتهاد يقول إنّ الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة، وإن لم يكن ذلك على التفصيل، وأيضاً فالآية واردة في الأداء عن الله لا في حكمه الذي يكون بالعقل.