فالجوابُ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.
وقوله :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾ الأكثر على أنه طلب الولد، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه، ولداً كان، أو غيره.
والأول أقربُ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران؛ حكاية عنه ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [ آل عمران : ٣٨ ].
وأيضاً : فقوله ها هنا « يَرُثُنِي » يؤيِّده.
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً ﴾ [ الأنبياء : ٨٩ ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ.
واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ] بأنَّه لما بشِّر بالولد، استعظمه على سبيل التعجُّب؛ وقال « أنَّى يكونُ لِي غلامٌ » ولو كان دعاؤُه لطلب الولد، ما استعظم ذلك.
وأجيبَ بأنَّه -عليه السلام- سأل عمَّا يوهب له، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن، يُولد لمثلهما؟! وهذا يُحْكَى عن الحسن.
وقيل : إنَّ قول زكريَّا -عليه السلام- في الدُّعاء « وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً » إنما سأل ولداً من غيرها أو منها؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ، فكأنَّه -عليه السلام- قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ، فهبْ لي من لدنك وليًّا، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها، فلمَّا بُشِّر بالغلام، سأل أن يرزق منها، أو من غيرها، فأخبر بأنه يرزقه منها.
فصل في المراد بالميراث في الآية
واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ، فقال ابنُ عبَّاس، والحسنُ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين.
وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ.
وقال السديُّ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة.
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس، والحسن، والضحاك.
وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة. واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب ﴾ [ غافر : ٥٣ ].
وقال -E- :« العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ ».
وقال تعالى :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [ النمل : ١٦ ] وهذا يحتملُ وراثة الملك، ووارثة النبوَّة، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً.
فصل في أولي ما تحمل عليه الآية
قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لقوله -E- :« نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ -لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ » ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا -وهو نبيٌّ من الأنبياء- أن يرث بنُو عمِّه مالهُ.
والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين، وقتل من قُتل من الأنبياء، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته، ويرثُ نُبوَّته وعلمه؛ لئلاَّ يضيع الدِّين.