فصل


قال ابن عباس : قوله :« رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » عام في حق من آمن ومن لم يؤمن. اعلم أنه -عليه لسلام- كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه -عليه السلام- بعث والناس في جاهلية وضلال، وأهل الكتابين كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال والحرام، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، قال الله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] إلى قوله :﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل. فإن قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال؟ فالجواب من وجوه :
الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، وهو منتقم من العصاة. وقال :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً ﴾ [ ق : ٩ ] ثم قد يكون سبباً للفساد.
الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] ولا يقال : أليس أنه قال :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٤ ]. وقال :﴿ لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين ﴾ [ الأحزاب : ٧٣ ] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه.
الثالث : أنه -عليه السلام- كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ القلم : ٤ ] « وقيل له -عليه السلام- : ادع على المشركين. فقال :» إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً « » وقال في رواية حذيفة :« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة ».
الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد :﴿ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ يعني المؤمنين خاصة.

فصل


قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه، وخلق ذلك فيهم، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة، وهو خلاف هذا النص، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم، لأنا نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته -عليه السلام- لحصولها بعده، بل كانت نعمهم في الدنيا قب بعثته كحصولها بعده وأعظم، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد.


الصفحة التالية
Icon