والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر؛ لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي. والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية، ولا نظريَّة ولا سمعيَّة فهو كقوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [ الحج : ٧١ ] ثم قال ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه. وقال عطية وابن زيد : معرضاً عما يدعى إليه تكبراً. والعطف الجانب وعطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي : يلويه ويمليه عند الإعراض عن الشيء، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً ﴾ [ لقمان : ٧ ] وقوله ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ ﴾ [ المنافقون : ٥ ]. ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله. ﴿ لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ ﴾ عذاب وهون، وهو القتل ببدر، فقتل النضر، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبراً. ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ﴾ ويقال له :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ والكلام في قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله ﴾ [ الحج : ٦ ] كالكلام في قوله :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ وكذا قوله « وأنَّ اللَّهَ » يجوز عطفه على السبب، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن الله، فيكون منقطعاً عما قبله.
قوله :« ظَلاَّم » مثال مبالغة. فإن قيل : إذا قلت : إن زيداً ليس بظلام لا يلزم منه نفي أصل الظلم، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
فالجواب : أن المبالغة إنما جيء بها لتكثير محلها فإن العبيد جمع، وأحسن هذا أن فَعَّالاً هنا للنسب أي : بذي ظلم لا للمبالغة.
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مطالب :
الأول : دلت على أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف النص.
الثاني : أن قوله :﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب، وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم.
الثالث : أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النَّظَّام، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.
الرابع : أنه لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم، لأن عندهم صحة نبوة النبي - عليه السلام - موقوفة على نفي الظلم، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور. وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي.