الثاني : أنه معطوف على ( ما تقدمه ) وفي ذلك ثلاث تأويلات :
أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم، وهو الخضوع والطواعية، وهو من باب الاشتراك المعنوي.
والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.
والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.
الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون « كَثِيرٌ » مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ كذا قدره الزمخشري، وقدره أبو البقاء مطيعون أو مثابون أو نحو ذلك.
الرابع : أن يرتفع « كثير » على الابتداء أيضاً ويكون خبره « مِنَ النَّاسِ » أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون.
الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف « كَثِيرٌ » على « كثير » ثم يخبر عنهم ب ﴿ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم.
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال : وهذان التخريجان ضعيفان. ( ولم يبين وجه ضعفهما ). قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك، وأما الثاني فقد يظهر، وذلك أن التكرير يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف، وقوله :
٣٧٥٢- لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ... وقرأ الزُّهري « وَالدَّواب » مخفف الباء، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين. وقرأ جناح بن حبيش :« وكَبِيرٌ » بالباء الموحدة.
وقرئ « وَكَثِيرٌ حَقًّا » بالنصب، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً، و « العَذَابُ » مرفوع بالفاعلية. وقرئ « حُقَّ » مبنياً للمفعول. وقال ابن عطية :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره. فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد.

فصل


قال ابن عباس في رواية عطاء :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ يوحده، ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ ممن لا يوحده، وروي عنه أنه قال :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ ثم استأنف بواو الاستئناف فقال :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾.
( وأما قوله تعالى ﴿ وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم مكرماً لهم. ثم بين بقوله ﴿ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.


الصفحة التالية
Icon