الثالث : أنها للتبعيض. وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن « من » للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده. وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع استعماله، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان. والأوثان جمع وثن، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب ويطلق أيضاً على الصليب، قال عليه السلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً :« أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ » وقال الأعشى :

٣٧٦٣- يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقه من وَثن الشيء، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن، وأنشد لرؤبة :
٣٧٦٤- عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ... أي : المقيمين على العهد، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم.

فصل


قال المفسرون :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾ أي؛ عبادتها، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس، أي سبب رجس وهو العذاب، والرجس بمعنى الرجز.
وقال الزجاج :« مِن » ههنا للتجنيس، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس ﴿ واجتنبوا قَوْلَ الزور ﴾. واعلم أنه تعالى لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد، لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئاً منه، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصَمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً.
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك ( من أَفِكه إذا صرفه ) وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً :
الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك.
والثاني : شهادة الزور؛ لأن النبي - ﷺ - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً، واستقبل الناس بوجهه، وقال :« عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » وتلا هذه الآية.
الثالث : الكذب والبهتان.
الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
قوله :« حُنَفَاءَ لِلَّهِ » حال من فاعل « اجْتَنِبوا »، وكذلك « غَيْرَ مُشْرِكِين » وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم « حنفاء » عدم الإشراك أي مخلصين له، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به، فلذلك قال ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾.


الصفحة التالية
Icon