فإن قيل : هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا : إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :
الأول : كيفية إزالتها، وهو قوله :﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾ والمراد إزالته وإزالة تأثيره، وهو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله :﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾ فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني : أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله :﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً ﴾، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، والمراد به تشديد التبعد، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.
ثم قال :﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ شك ونفاق، وخصهم بذلك، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر. ( وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر ) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطناً وظاهراً. ثم قال :﴿ وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى : وإنهم. فوضع الظاهر موضع المضمر، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء. وأما في حق المؤمنين فهو قوله :﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ﴾ ولنرجع إلى الإعراب فنقول :
قوله :﴿ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان ﴾ في هذه الجملة بعد « إلاّ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب على الحال من « رَسُول » والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه، والحال محصورة.
والثاني : أنها في محل الصفة لرسول، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف، وبالنصب باعتبار محله، فإن « مِنْ » مزيدة فيه.
الثالث : أنها في موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء، يعني : أنه استثناء منقطع و « إذا » هذه يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفي، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان : ونصوا على أنه يليها - يعني « إلا » - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل، وما رأيت زيداً إلا يفعل، والماضي بشرط تقدم فعل نحو


الصفحة التالية
Icon