والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه.

فصل


دل قوله :﴿ ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ ﴾ على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - ﷺ - قال :« المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان » ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة.
قوله :« لَيُدْخِلَنَّهُمْ » هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من « لَيَرْزُقَنَّهُم » وأن تكون مستأنفة. وقوله :« مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه » قال ابن عباس : إنما قال :« يَرْضَوْنَه » لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف « يَرْضَوْنَ » وقوله :﴿ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] وقوله :﴿ ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ [ الفجر : ٢٨ ] ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
ثم قال :﴿ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة.
قوله تعالى :﴿ ذلك وَمَنْ عَاقَبَ ﴾ « ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف. والباء في قوله :﴿ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. « وَمَنْ عَاقَبَ » مبتدأ خبره « لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ ».

فصل


المعنى : الأمر ذلك الذي قصصناه عليك ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ أي قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال.
قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكره المسلمون قتالهم، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية، وعفا عنهم وغفر لهم.
والعقاب الأول بمعنى الجزاء، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ﴿ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ].
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية.
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حَرَّق حَرَّقْنَاه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف.


الصفحة التالية
Icon