قوله تعالى :﴿ ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ ﴾ الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر هاهنا ما يدل على إبطال قولهم.
قوله :« ضُرِبَ مَثَلٌ » قال الأخفش : ليس هذا مثل وإنما المعنى جعل الكفارُ لله مثلاً. قال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس مثلاً، فكيف سماه مثلاً؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة. وقيل : معنى « ضَرَبَ » جعل، كقولهم : ضَرَبَ السلطان البَعْثَ، وضرب الجِزْيَة على أهل الذمة. ومعنى الآية : فجعل لي شَبَهٌ وشُبِّه بي الأوثان، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها. وقيل : هو مثل من حيث المعنى، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً. « فَاسْتَمِعُوا لَه » أي : فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع بالتدبر.
قوله :﴿ إِنَّ الذين تَدْعُونَ ﴾ قرأ العامة « تَدْعُونَ » بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت وهو في كلتيهما مبني للفاعل.
وموسى الأسواري واليماني « يُدْعَوْنَ » بالياء من أسفل مبنياً للمفعول. والمراد الأصنام. فإن قيل : قول « ضُرِبَ » يفيد فيما مضى، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب : إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم.
قوله :« لَنْ يَخْلُقُوا ». جعل الزمخشري نفي « لَنْ » للتأبيد وتقدم البحث معه في ذلك. والذباب معروف، وهو واحد، وجمعه القليل : أذِبَّة، وفيه الكسرة، ويجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمها وعلى ذُبّ. والمِذَبَّة ما يطرد بها الذباب. وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف.
قوله :﴿ وَلَوِ اجتمعوا لَهُ ﴾ قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم. وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه الجملة الحالية على حال محذوفة، أي : انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية لخلقهم، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً.
قوله :﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً ﴾ السلب اختطاف الشيء بسرعة، يقال : سلبه نعمته.
والسلب : ما على القتيل، وفي الحديث :« مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه ».
وقوله :﴿ لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال، يقال : أنقذه من كربته، أي : أنجاه منه وخلصه، ومثله : أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ.
فصل
كأنه تعالى قال : أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب.