« رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر » ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر، فهو ثلاثة :
الأول : قوله :« هُوَ اجْتَبَاكُمْ » اختاركم لدينه، وهذه من أعظم التشريفات، فأي رتبة أعلى من هذه، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾ وهو كالجواب عن سؤال، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله :﴿ مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾، [ روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه قال : كيف قال الله ﴿ ما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ] مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس : بلى، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا.
وهذا قول الكلبي، قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه. وقال ابن عباس ومقاتل : هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم، وإباحة الفطر في السفر للصائم، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة.

فصل


استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج، وذلك منفي بصريح هذا النص.
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً، وذلك من أعظم الحرج، ولما استوعى العدمان زال السؤال.
الموجب الثاني : قوله :« مِلَّةَ أَبِيكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمراً. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء.
الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص، أي : أعني بالدين ملة أبيكم.
الثالث : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قاله الزمخشري. وهذا أظهرها.
الرابع : أنها منصوبة بجعلها مقدراً. قاله ابن عطية.
الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر، أي : كملة أبيكم. قاله الفراء، وقال أبو البقاء قريباً منه، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقوله :« إبراهيم » بدل أو بيان أو منصوب بأعني.

فصل


والمقصود من ذكر « إِبْرَاهِيم » التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام - لأنهم من أولاده، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول هذا الدين.


الصفحة التالية
Icon