﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه.
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها؛ كقوله :﴿ وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ ثم يذكر نعم الله تعالى؛ كقوله :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا، كقوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي ﴾ وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ.
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة، وإجابة الله تعالى دعاءه، وأن الله تعالى بشَّره، وبشَّرته الملاشكةُ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح.
وأمَّا يحيى؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا، وقوله ﴿ يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً، وتقيًّا، وبرًّا بوالديه، ولم يكن جبَّاراً، ولم يعص قطٌّ، ولا همَّ بمعصية، ثم سلَّم عليه يوم ولد، ويوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا.
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع.
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ؛ لقوله :﴿ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾.
فإن قيل : المرادُ « ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً » كما في قوله :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ [ الإنسان : ١ ].
فالجوابُ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً، ونحنُ نقولُ به؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة، وهي ليست بالإنسان، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في « آل عمران »، وذكرها في هذه السورة، فلنعتبر حالها في الموضعين، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه، ولم يبين الوقت، وبينه في « آل عمران » بقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾ [ آل عمران : ٧٨ ] إلى أن قال :« هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء »، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم، دمع في حق نفسه، فدعا ربه، وصرح في « آل عمران » بأن المنادي هوالملائكة، بقوله :﴿ فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ]، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله :« يا زكريا إنما نبشرك » هو الله تعالى، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما.
وقال في آل عمران ﴿ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ] فذكر أولاً كبر نفسه، ثم عقر المرأة وهاهنا قال :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾ وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب.
وقال في « آل عمران » :﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ] وقال هاهنا :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾ وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته.
وقال في آل عمران :﴿ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر ﴾ [ آل عمران : ٤١ ].
وقال هاهنا ﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾.
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ. والله أعلم.