قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ أي : أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي ( كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم ). وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه. وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم :﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ].
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال :﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي : بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله.
قيل : كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك.
وقيل : إن جبريل - عليه السلام - علّمه السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله :« بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا ». ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾. واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما. وقيل : إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله :﴿ قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ [ فصلت : ١١ ].
قوله :« وَفَارَ التَّنُّور » تقدم الكلام في التنور في سورة هود. « فَاسْلُكْ فِيهَا » أي : ادخل فيها. يقال : سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ أي : من كل زوجين من الحيوان ( الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان ) وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة : إنَّ الزوجَ هو الاثنان. روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ. وقرئ :« مِنْ كُلٍّ » بالتنوين و « اثْنَيْن » تأكيد وزيادة بيان « وَأهْلَكَ » أي : وأدْخل أَهْلَك ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ ولفظ ( على ) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]. وهذه الآية تدل على أمرين :
أحدهما : أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به، وإن لم يكن من أهله. وقيل : المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو حسباً. وهذا ضعيف، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله :﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾.
والثاني : قال :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا ﴾ يعني : كنعان، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه، فقد صيّر خبره الصادق كذباً، وإن لم يجبه إليه، كان ذلك تحقيراً لشأن نوح - عليه السلام -، فلذلك قال :« إِنَّهُم مُغْرَقُونَ » أي : الغرق نازل بهم لا محالة. قوله :﴿ فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك ﴾ اعتدلت أنت ومن معك على الفلك، قال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت، وثلاثة بنين، سام، وحام، ويافث، وثلاثة نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.