قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ﴾ أي : أقواماً آخرين. قيل : المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى : أنه ما أخلى الديار من المكلفين. ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ﴾ ( مِنْ ) صلة كأيّ : ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها. وقيل : آجال حياتها وتكليفها. قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ﴾ في « تَتْرَى » وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على الحال من « رُسُلنَا »، يعني : متواترين أي : واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني : أنه نعت مصدر محذوف، تقديره : إرسالاً تَتْرَى، أي : متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي « تَتْرًى » بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة « تَتْرَى » بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان :
أحدهما : أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله :« تَتْرًى » كقولك : نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم « فَعْلاً ». وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال : هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو : هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه ( فَعْلاً ).
الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر ( ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني : أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى ).
الثالث : أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني : أنها للإلحاق.
الثالث : أنها للتأنيث.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و « ذِكْرَى »، أو اسم جمع ك « أَسْرَى » و « شَتَّى » ؟ كذا قاله أبو حيان. وفيه نظر : إذ المشهور أن « أَسْرَى » و « شَتَّى » جمعا تكسير لا اسما جمع. وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة، والوتر، فقلبت تاء كما قلبت تاء في « تَوْرِيَة »، وتَوْلَج، وتَيْقُور، وتخمة وتراث، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي : واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره : هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة.