وتقدم الكلامُ على قوله :﴿ قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهو كقوله في آل عمران ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ.
قوله :« ولنَجْعَلهُ » يجوز أن يكُون علَّةً، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ، تقديره : لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ، تقديره : لنُبَيِّنَ به قدرتنا، ولنجعله آيةً، والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم « كان » مضمرٌ فيها، أي : وكان الغلام، أي : خلقه وإيجاده أمراً مقضياً : أي لا بُدَّ منه.
والمرادُ ب « الآية » العلامةُ، أي : علامة للنَّاسِ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق؛ فإنه تعالى خلق آدم -صلوات الله عليه وسلامه- من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حوَّاءمن ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى -صلوات الله عليه- من أنثى بلا ذكرٍ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى.
﴿ وَرَحْمَةً مِّنَّا ﴾ أي : ونعمةً لمنْ تبعه على دينه، ﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾ محكوماً مفروغاً منه، لا يُرَدُّ، ولا يُبَدَّلُ.
قوله تعالى :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت ﴾.
قيل : إنَّ جبريل -صلوات الله عليه وسلامه- رفع درعها، فنفخ في جيبه، فحملتْ حين لبستْ.
وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ، فوصل الرِّيح إليها، فحملت بعيسى في الحالِ.
وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها، فوصلت إلى بطنها.
وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ التحريم : ١٢ ].
وظاهرهُ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى؛ ولأنه تعالى قال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ [ الحجر : ٢٩ ] فكذا هاهنا، وإذا عرفت هذا، ظهر أن في الكلام حذفاً، تقديره :« فَنَفخَ فيها، فحملتهُ ».
قيل : حملتْ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ].
وقيل : بنتُ عشرين، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال.
قوله تعالى :﴿ فانتبذت بِهِ ﴾ : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال، أي : انتبذتْ، وهو مصاحبٌ لها؛ كقوله :[ الوافر ]

٣٥٨٥-............................. تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا
والمعنى : اعتزلت، وهو في بطنها؛ كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] أي : تنبتُ، والدُّهْنُ فيها.


الصفحة التالية
Icon