الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها، لما علمتْ أنه ينطقُ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام.
فصل في معنى الآية على القولين
من قال : المُنادِي : هو عيسى، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد.
ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها؛ ليناديها بهذه الكلمات؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة.
قوله :« ألاَّ تَحْزَنِي » يجوز في « أنْ » أن تكون مفسرةً؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول، و « لا » على هذا : ناهيةٌ، حذف النون للجزم؛ وأن تكون الناصبة، و « لا » حينئذٍ نافيةٌ، وحذفُ النُّون للنَّصْب، ومحلُّ « أنْ » إمَّا نصب، أو جرٌّ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ، أي : فَنَادَاهَا بكذا، والضميرُ في « تحتها » : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة، والأول أولى؛ لتوافق الضميرين.
قوله تعالى :[ « سَرِيًّا » ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل، و « تَحْتك » مفعولٌ ثان؛ لأنها بمعنى صيَّر « ويجوز أن تكون بمعنى » خلق « فتكون » تَحْتَكِ « لغواً.
والسَّرِيُّ : فيه قولان :
أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر، من » سَرُوَ يَسْرُو « ك » شَرُفَ، يَشْرَفُ « فهو سريٌّ، وأصله سَرِيوٌ؛ فأعلَّ سيِّدٍ، فلامهُ واوٌ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله-، ويجمعُ » سريٌّ « على » سراة « بفتح السين، وسُرَواء؛ كظرفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جمعه » أسْرِيَاء « كغَنِيِّ، وأغنياء، وقيل : السَّرِيُّ : من » سَرَوْتُ الثَّوبَ « أي : نزعتهُ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس، أي : نزعتهُ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه؛ بخلاف المُدَّثِّر، والمُتزمِّل، قاله الراغب.
والثاني : أنه النَّهْر الصغير، ويناسبه » فكُلِي واشْرَبِي « واستقاقه من » سَرَى، يَسْرِي « لأن الماء يَسْري فيه، فلامه عهلىىهذا ياء؛ وأنشدوا للبيدٍ :[ الرجز ]
٣٥٨٨- فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا | مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا |
فصل
قال الحسن، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ.
يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه، أي : من أشرافهم، وروي أن الحسن رجع عنه.
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -Bه- :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ﴾.
فقال : إن كان لسربًّا، وإن كان لكريماً، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد، إنما هو الجدول، فقال له الحسنُ » مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ « ].