قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ، فيحذف نون الرفع؛ كقُول الأفوهِ :[ السريع ]
٣٥٩٨- إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ | ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس |
٣٥٩٩- لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ | يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ |
قوله تعالى :« فَقُولِي » بين هذا الجواب، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك الكلام، فقُولي، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها « فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا » كلامٌ؛ فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ، وجوابه ما تقدَّم.
ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال، بل صبرتْ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ، فذكرت لهم :﴿ إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً ﴾.
وقيل : المرادُ بقوله « فقٌولي » إلى لآخره، أنه بالإشارة، وليس بشيء؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ « صِيَاماً » بدل « صوماً » وهما مصدران.
فصل في معنى صوماً
معنى قوله تعالى :« صَوْماً » : أي صمتاً، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود -Bه-، والصَّوم في اللُّغة، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام.
قال السديُّ : كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد، صام عن الكلام، كما يصوم عن الطَّعام، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ.
قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة، ولا تكلِّم الإنْسَ.
قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت؛ لئلاَّ تشرع مه من اتَّهَمَهَا في الكلام؛ لمعنيين :
أحدهما : أن كلام عيسى -صلوات الله عليه- أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [ الأمر ] إلى الأفضلِ أولى.
الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً.
قوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾ :« به » في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « أتَتْ »، [ أي : أتَتْ ] مصاحبة له؛ نحو : جاء بثيابه، أيك ملتبساً بها، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان، وأمَّا « تَحْملُه » فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل « أتَتْ » ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في « به » وظاهر كلام أبي البقاء : أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً؛ وفيه نظرٌ.
قوله تعالى : شَيْئاً « مفعولٌ به، أي : فعلِت شيئاً، أو مصدرٌ، أي : نوعاً من المجيءِ غريباً، والفَرِيُّ : العظيمُ من الأمر؛ يقال في الخَيْر والشرِّ، وقيل : الفَرِيُّ : العجيبُ، وقيل : المُفْتَعَلُ، ومن الأول، الحديثُ في وصف عمر -Bه- :» فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ « والفَرِيُ : قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح، والإفْرَاء : إفساده، وفي المثل : جاء يَفْرِي الفَرِيَّ، أي : يعمل العمل العظيم؛ وقال :[ الكامل ]