٣٦٠٥- فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ | وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم |
وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد، والأكثرون على أنه إخفاء.
فصل في مناظرة مريم لقومها
لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت، وأشارت إلى عيسى، أن كلِّمُوه.
قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ، أشارتْ إليه؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها، أي : هو الذي يُجيبُكُم، إذا ناطَقْتُمُوه.
قال السديُّ : لما أشارتْ إليه؛ ليكون كلامُه حجَّة، غضبُوا، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها، و ﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾، والمهدُ : هو حجرها.
وقيل : هو المهدُ بعينه.
والمعنى : كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد؟!
قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم، وكان يرضعُ، ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتَّكأ على يساره، وأشار بسبَّابة يمينه، فقال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾.
وقيل : كلَّمهم بذلك، ثم لم يتكلَّم؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبانُ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- ﷺ - عند مناظرتها اليهُود، فقال لعيس : انْطِقْ بحُجَّتِكَ، إن كنت أمرتَ بها، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً، وفيه فوائد :
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت : كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم، قال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾.
الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾.
الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، والمرتبة العظيمة، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى.
فصل في إبطال قول النصارى
في إبطال قول النصارى وجوه :
الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه، والمرادُ من الكلمة العلمُ، فنقول : العلمُ، لما حصل لعيسى، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى، أو ما بقي.