قوله تعالى :﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ، وتقدمُ « ما » على « دام » شرطٌ في إعمالها، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا « دُمْنُ » بضم الدَّالِ، وعن ابن كثيرٍ، وأبي عمرو، وأهْلِ المدينة :« دِمْتُ » بكسرها، وهذا لم نره لغيره، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ، ولا شكَّ أنَّ في « دَامَ » لغتين، يقالُ : دمت تدوُمُ، وهي اللغةُ الغاليةُ، ودمتَ تدامُ؛ كخِفْتَ تخَافُ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ.
قوله تعالى :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ﴾ : العامَّةُ على فتح الباء، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على « مباركاً » أي : وجعلني برَّا.
والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، واختير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها.
قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برَّا؛ لفَرْط برِّه، ونصبه بفعل في معنى « أوْصَانِي » وهو « كَلَّفَنِي » لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة، وكلَّفَنِي بها واحدٌ.
وقُرئ « برَّا » بكسر الباء : إمَّا على حذفِ مضافٍ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ، وحكى الزَّهْراوِيُّ، وأبو البقاء أنه قُرِئَ يكسر الباء، والراء، وتوجيهه : أنه نسقٌ على « الصَّلاة » أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة، وبالبرِّ، أو البرّ.
فصل فيما يشير إليه قوله « وبرَّا بوالدتي »
قوله :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ﴾ إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا؛ إذ لو كانت زانيةٌ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها.
قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى، جعله برًّا، وما جعله جبَّاراً، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً، وجعله [ غير ] برٍّ بأمِّه؛ فإن الله تعالى، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك، ومعلومٌ أنه -صلواتُ الله عليه وسلامهُ- إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ، ومعنى قوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً ﴾ أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً، كنتُ عاصياً شقياً.
قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً، وتلا :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً، وقرأ :﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ [ النساء : ٣٦ ].
قوله تعالى :﴿ والسلام عَلَيَّ ﴾ : الألف واللام في « السَّلام » للعهدِ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله -عزَّ وجلَّ- :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ﴾ [ الآية : ١٥ ] فهو كقوله :