وتقدَّم الكلامُ على نصب « فَيَكُونَ ».

فصل فيما تشير إليه « ذلك »


« ذَلِكَ » إشارةٌ إلى ما تقدَّم.
قال الزَّجَّّاج - C-، أي : ذلك الذي قال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾ [ مريم : ٣٠ ] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة، لا أنَّه ابنُ الله [ كما زعمت النصارى ].
وقوله :﴿ الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ ﴾، أي : يختلفوُن، وأما امتراؤهُم في عيسى، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله، وقائلٌ يقولُ : هو الله، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران.
ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه- لمَّا رفع، حضر أربعةٌ من [ أكابر ] علمائهم، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض، خلق، وأحيى، ثم صعد إلى السَّماء، فتبعهُ على ذلك خلقٌ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ؟ قال : هو ابنُ الله، فتابعهُ على ذلك ناسٌ، وهم النسطورية، [ وقيل للثالث : ما تقول؟ قال : هو غله، والله إله، فتابعه على ذلك أناس، وهم الاسرائيلية ]، وقيل للرابع : ما تقولُ. فقال : عبدُ الله ورسولهُ، وهو المؤمنُ المُسْلم، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ، ونيام، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه، فخصمهم.
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ نفى عن نفسه الولد، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد.
والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ، فقوله :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ، أي : لا يصحُّ ذلك، ولا ينبغي، بل يستحيلُ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ، وإن كان بصُورة النَّفِي.
وقيل : اللاَّم منقولةٌ، أي : ما كان من ولدٍ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ، إنَّه ولدي؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله، فقوله :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ كقولنا : ما كان لله أن يظلم، أي : لا يلِيقُ بحكمته، وكمالِ إلهِيَّتِهِ.
قوله تعالى :﴿ إِذَا قضى أَمْراً ﴾ إذا أراد أن يحدث أمْراً، ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا، فهو محالٌ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ، ] ولو كان [ مُمْكِناً ] لذاته، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه، كان ممكناً لذاته، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته، فيكُون عبداً له؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك.
وإن كان الولدُ مُحْدَثاً، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم، وإيجاده، وهو المرادُ من قوله تعالى :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾.


الصفحة التالية
Icon