قوله :﴿ ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم ﴾ بالله، والمعرفة ﴿ مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني ﴾ على ديني ﴿ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ مستقيماً. ﴿ ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان ﴾ أي : لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان؛ فوجب حملُه على الطَّاعة ﴿ لشَّيْطَانَ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ أي : عاصياً، و « كَانَ » بمعنى الحالِ، أي : هو كذلك.
فإن قيل : إثباتُ الصَّانع.
وثانيها : إثباتُ الشيطان.
وثالثها : أن الشيطان عاصٍ [ لله ].
ورابعها : أنَّه لما كان عاصياً، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء.
وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم : أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ، يسلِمها الخصمُ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات، وكيف، والمحكيُّ عنه : أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن؟
وإذا لم يسلِّم وجوده، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه.
فالجوابُ :
أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب « آزَرَ » هو قوله :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة، فسقط السُّؤال.
قوله تعالى :﴿ ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ ﴾.
قال الفرَّاء- C- : أخافُ : أعلمُ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه- عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك، كان خائفاً لا قاطعاً، والأوَّلُون فسَّروا الآية، فقالوا : أخافُ، بمعنى أعلمُ ب « أن يسمِّك عذابٌ » يصيبك عذابٌ من الرحمن، إن أقمت على الكفر، « فتكُون للشيطانِ وليَّا » قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً.
وقيل : المرادُ بالعذابِ هنا : الخِذْلانُ، والتقدير : إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله، فتصير موالياً للشيطان، ويتبرأ الله منك.
فصل في نظم الآية
أعلمْ أنَّ إبراهيم- صلوات الله وسلامه عليه- رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر، والاستدلال، وترك التقليد، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي، ثم إنَّه - صلوات الله عليه- أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه :« يا أبت » دليلٌ على شدَّة الحبِّ، والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصَّواب، وختم الكلام بقوله :﴿ ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ ﴾ وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ :
الأول : لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى :