قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾. في « جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه، مضافاً إلى المفعول ك « ضَرْبَ الرِّقَابِ »، قاله الزمخشري.
والثاني : أنه حال، تقديره : مُجتهدين في أيمانهم، كقولهم : افعل ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على « جَهْد أيْمَانِهِم » في المائدة.
فصل
قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ - :« أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا » فقال الله تعالى :« قُلْ » لهم « لاَ تُقْسَمُوا » لا تحلفوا، وهاهنا تم الكلام.
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح.
قوله :« طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ». في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره :« أَمْرُنَا طَاعَةٌ »، أو « المطلوب طَاعَةٌ ».
والثاني : أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي :( أَمْثَل أَوْ أَوْلَى ).
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه، كقوله :« صَبْرٌ جَمِيلٌ »، ولا يبرز إلاّ اضطراراً، كقوله :
٣٨٥٣- فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ | وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ |
والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف، أي : ولتكن طاعة، ولتوجد طاعة.
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ ( إذا ) تقدَّم مشعر به، كقوله :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ [ النور : ٣٦ ] في قراءة من بناه للمفعول، أي : يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. أو يجاب به نفيٌ، كقولك : بلى زيدٌ لمن قال :« لم يقم أحدٌ ». أو استفهام كقوله :
٣٨٥٤- أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل | بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق |
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية، وذلك على المصدر، أي : أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً، وقد دلَّ عليه قوله بعدها :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله ﴾ قال شهاب الدين :( قوله :( ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً ) قد تقدم النقل لقراءته ).