ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم، أي : كذلك أنزلناه، مفرقاً. فإن قيل :« كذلك » إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدمه هو إنزالة جملة، ( فكيف فسره ب « كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ » ) مفرقاً؟
فالجواب : أن الإشارة ( إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة. قوله :« ورتلناه ترتيلاً » الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت ) يسير دون قطع النفس، ومنه ثغر رَتِلٌ ومُرتل، أي : مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة. قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا. يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك، لتدافع مع قوله « جُمْلَةً » لأن الجملة تنافي التفريق، وهذا بناء منه على معتقده، وهو أن التضعيف يدل على التفريق، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة، وأول آل عمران، وآخر الإسراء، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله.

فصل


« وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً » قال ابن عباس : بيناه بياناً. والترتيل التبيين في ترسل وتثبيت. وقال السديّ : فصلناه تفصيلا. وقال مجاهد : بعضه في أثر بعض. وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقاً آية بعد آية. قوله :« ولا يَأْتُونَك » يعني المشركين « بمثل » يَضربونه في إبطال أمرك ﴿ إلا جئناك بالحق ﴾ الذي يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ] في ما يريدون من الشبه ( مثلاً، وسمى ما يدفع به الشُّبَه ) حقاً.
قوله :﴿ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق ﴾ هذا الاستثناء مفرغ، والجملة في محل نصب على الحال، أي : لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق، « وأحْسَنَ تَفْسِيراً » أي : بياناً وتفضيلاً، و « تفسيراً » تمييز. والمفضّل عليه محذوف : تفسيراً من مثلهم.
والتفسير : تفعيل من الفَسْرِ، وهو كشف ما قد غطي.
ثم ذكر مآل المشركين فقال :﴿ الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ ﴾ بساقون ويجرُّون إلى جهنم، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم على القفا، وأرجلهم إلى فوق، وقال عليه السلام :« إنّ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » والأولى أولى، لأنه ورد أيضاً.
قوله :« الّذِينَ يُحْشَرُونَ » يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف، أي : هم الذين ويجوز نصبه على الذم، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله ﴿ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً ﴾، ويجوز أن يكون « أُولَئِكَ » بدلاً أو بياناً للموصول، و « شَرٌّ مَكَاناً » خبر الموصول.
قوله :﴿ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ منزلاً ومصيراً من أهل الجنة « وأضل سبيلاً » وأخطأ طريقاً وههنا سؤال كما تقدم في قوله :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ].
ولما تكلم في التوحيد، ونفي الأنداد وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة.


الصفحة التالية
Icon