وقرأت فرقة « مَقَاماً » بفتح الميم، أي : مكان قيام.
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى، أي : مكان إقامة وثُوِيٍّ.
وقوله :﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ﴾ يحتمل أن يكون من كلامهم، فتكون منصوبة المحل بالقول، وأن يكون من كلام الله تعالى.
قوله :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾.
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر، وعليه ﴿ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ، وقال : لا يناسب هنا، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه ﴿ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ. وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة من قَتَّر بمعنى ضيَّق، وكلها لغات، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير ( التضييق الذي هو نقيض ) الإسراف، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة.

فصل


المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ]. وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه؟ قال : ما سترك عن الشمس، وأكنَّك من المطر. وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال : ما سد الجوعة، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار : منع حق الله تعالى.
قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل ( أبي ) قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً. وأنشدوا :
٣٨٨٩- ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ
وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
قوله :﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ في اسم « كان » وجهان :
أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله « أَنْفَقُوا ». أي : وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : هو « قَوَاماً » و « بَيْنَ ذَلِكَ » إما معمول له، وإما ل « كان » عند من يرى إعمالها في الظرف، وإما المحذوف على أنه حال من « قَوَاماً »، ويجوز أن يكون ﴿ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾، خبرين ل « كان » عند من يرى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه.
والثاني : أن الخبر « بَيْنَ ذَلِكَ » و « قَوَاماً » حال مؤكدة.
والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها « بَيْنَ ذَلِكَ » وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ، و « قَوَاماً » خبرها قاله الفراء. قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ( ولكنه من جهة المعنى ) ليس بقوي؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ.
قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيِّد الجارية مالكها. قال ثعلب : القوام - بالفتح - ( العدل والاستقامة، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
وقال الزمخشري : القوام ) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقرأ حسان بن عبد الرحمن « قِوَاماً » يكسر القاف، فقيل : هما بمعنى، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل : بمعنى سداداً وملاكاً.


الصفحة التالية
Icon