﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] فقال :﴿ ﴾ وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله :﴿ رَبُّ المشرق والمغرب ﴾.
وأما قوله ﴿ إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ ﴾ فكأنه - عليه السلام - قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته، ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرّفت حقيقته، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف ( به تلك ) الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق، وعدل إلى التخويف، وقال :﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ : المحبوسين. قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض.
وقال :﴿ لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ ولم يقل :« لأَسْجُنَنَّكَ » وهو أخص منه؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك، أو معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده، فقال ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾ أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله، وعلى أنِّي رسوله. فعند ذلك قال :﴿ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون :« فَأْتِ بِهِ » فإنا لن نسجنك حينئذ ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول، وهو قوله :﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾ أي : بآيةٍ بيِّنة، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله، وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم. والواو في قوله :﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ ﴾ واو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين؟ أي : جائياً بالمعجزة وقال الحوفي :« هي واو العطف ». وقتدم تحرير هذا عند قوله :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ﴾ [ ١٧٠ ] في البقرة، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.


الصفحة التالية
Icon