« كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي » قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل : قد قال ههنا « وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ » وقال :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ [ المعارج : ١٠ ]. وقال ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٧ ].
فالجواب : رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا :﴿ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ [ يس : ٥٢ ]. وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل :« لاَ يَتَسَاءَلُونَ » صفة للكفار لشدة خوفهم، وأمّا قوله :﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٧ ] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها. وعن الشعبي قالت عائشة :« يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول :﴿ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ فقال عليه السلام » ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم «.
قوله :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز المفلح، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾ [ الكهف : ١٠٥ ] أي : قدراً وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء.
قوله :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ ﴾ قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
قوله :﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ يجوز أن يكون » خَالِدُونَ « خبراً ثانياً ل ( أُولَئِكَ )، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي : هم خالدون. وقال الزمخشري :﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ بدل من » خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها.
قال أبو حيان : جعل » فِي جَهَنَّمَ « بدلاً من ( خَسِرُوا )، وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به » فِي جَهَنَّمَ « أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم. قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون » خالدون «، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبراً بعد خبر، ل » أُولَئِكَ « أو خبر مبتدأ محذوف. وهذان إنّما يليقان ب » خَالِدُونَ «، وأما » فِي جهنَّم « فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير » خَالِدُونَ « معلقاً.