وأما احتجاجهم ب « يَوْمِ الظُّلَّةِ » فإن كان دليلاً على أنهم أمة أخرى فليكن تعداد « الرجفة، والصيحة » دليلاً على أنهما أمتان، ولا يقول أحد.
وأيضاً فقد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدلّ على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب، وذكر في كل موضع ما يناسب ذلك الخطاب، فاجتمعوا تحت الظلّة، ورجفت بهم الأرض من تحتهم، وجاءتهم صيحة من السماء ].
قوله :﴿ أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين ﴾ الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن. واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب : وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله :« أَوْفُوا الكَيْلَ » ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين ﴾، ولم يذكر الزائد، لأنه إن فعله فقد أحسن، وإن لمك يفعله فلا إثم عليه. ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال :﴿ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ﴾. قرىء :« بالقُسْطَاسِ » مضموماً ومكسوراً، وهو : الميزان وقيل : القَرَسْطُون ﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ ﴾. يقال بخسه حقه : إذا نقصه إياه، وهذا عام في كل حق. ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ وقد تقدم.
قوله :« وَالجِبِلَّةَ » العامة على كسر الجيم والباء وشد اللام. وأبو حصين والأعمش والحسن بضمّهما وشد اللام. والسُّلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء وهذه لغات في هذه الحرف، ومعناه : الخلق المتَّحد الغليظ، مأخوذٌ من الجبل قال الشاعر :

٣٩٢٣ - وَالمَوْتَ أَعْظَمُ حَادِثٍ مِمَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال الهروي : الجِبِلُّ والجُبُلُّ والجَبْلُ لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. وقيل :« الجِبِلَّةُ » من قولهم : جُبِلَ على كذا، أي : خُلِقَ وطُبِعَ عليه. ، وسيأتي في « يس » إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك عند قوله :« جِبِلاًّ كَثِيراً ». والمراد ب « الجِبِلَّةِ الأَوَّلِينَ » : الأمم المتقدمين، أي : أنه المنفرد بخلقهم وخلق من تقدمهم.
قوله :﴿ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾. جاء في قصة هود « مَا أَنْتَ » بغير واو، وهاهنا بالواو. فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم : التَّسحير والبشرية، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحَّراً، ثم ( قرر ) بكونه بَشَراً. ثم قالوا :﴿ وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين ﴾ ومعناه ظاهر. ثم إنَّ شعيباً - عليه السلام - كان يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء ﴾ وقد تقدم كلام في « كِسَفاً » والشتقاقه في الإسراء.


الصفحة التالية
Icon