قوله :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع ﴾ قيل : يجوز أن يكون جمع مُرْضِع وهي المرأة، وقيل : جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، ثم جَوَّزوا فيه أن يكون مكاناً أي : مكان الإِرضاع وهو الثَّدي وأن يكون مصدراً أي : الإرْضَاعاتُ، أن : أنواعها، و « مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل قصِّهَا أَثرهُ، أو من قبل مجيء أخته، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. والمراد من التحريم المنع، لأن التحريم بالنهي تعبّد وذلك لا يصح، فلا بُدَّ من فِعْل سواه، فيحتمل أن - تعالى - غيَّر طبعه عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهن طعماً ينفر عنه طبعه، أو وضع في لبن أمه لذة تعود بها، فكان يكره لبن غيرها.
فصل
قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همَّها من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكل ما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها؛ فذلك قوله عزَّ وجلَّ ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع ﴾، فلمَّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك ﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ﴾ أي : يرضعونه لكم ويضمنونه، وهي امرأة قد قُتِلَ ولدها فأحبُّ شيءٍ إليها أن تجد صغيراً ترضعه.
قوله :﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ الظاهر أنه ضمير موسى، وقيل لفرعون، قال ابن جُريج والسُّديّ : لما قالت أخت موسى ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابتُه، فقالت : إنَّمَا أَرَدْتُ وهم للملك ناصِحُونَ، فتخلَّصَت منهم، وهذا يُسمى عند أهل البيان الكلام الموجَّه ومثله : لما سُئِل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّاً دون غيره، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان، فقيل له : أيهم أحبّ إلى رسول الله؟ فقال : من كانت ابنته تحته. وقيل لما تفرّسوا أنه قرابتُهُ قالت : إنما قللت هذا رغبة في سرور الملك أمي. قالوا : ولأمك ابن؟ قالت : نعم، هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها. قالوا : صدقت، فائتينا بها، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل تديثها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّاً.
والنصح : إخلاص العمل من سائر الفساد.
قوله :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ بردِّ موسى إليها، « وَلاَ تَحْزَنَ » عطف على « تَقَرَّ »، ودمعةُ الفرح قارّةٌ، ودمعةُ التَّرَح حارَّةٌ، قال أبو تمام :
٣٩٧٦ - فَأَمَّا عُيُونُ العَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ | وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ |
﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ بردّه إليها كانت عالمة بذلك ولكن ليس المخبَر كالمعاين فتحققت بوجود الموعود، ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن الله وعدها ردّه إليها. قال الضحاك : لمّا قَبلَ ثديها قال هامان : إنك لأمه، قالت : لا، قال : فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت : أيها الملك، إني أمرأة طيبة الريح، حلوة اللبن، فما شم ريحي صبيّ إلا أقبل على ثديي. قالوا : صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها أتحفها بالذهب والجواهر.