وقوله :« هذَا » و « هذا » على حكاية الحال الماضية، فكأنهما حاضران، أي : إذا نظر الناظر إليهما، قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه. وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب، وأنشد لجرير :
٣٩٧٨ - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة | لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا |
﴿ هذا مِن شِيعَتِهِ ﴾ من بني إسرائيل، ﴿ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ من القبط. قال مقاتل : كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل، لقول موسى عليه السلام له ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ القصص : ١٨ ]. والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً، قيل : إنه السامري، والقبطي طبَّاخ فرعون. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع. وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم.
قوله « فَاسْتَغَاثَهُ » هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة. قال ابن عطية : هي تصحيف وقال ابن جبارة صاحب الكامل : الاختيار قراءة ابن مقسم، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى في هذا الباب قال شهاب الدين : نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة ( كما أن تغالي ) الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود.
قوله :« فَوَكَزَهُ » أي : دفعه بجميع كَفِّه، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني : بأطراف الأصابع، وقيل بالعكس، وقيل : اللكز في الصدر، والوكز في الظهر، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال :
٣٩٧٩ - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي | لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ |
قوله :« فَقَضَى » أي : موسى، أو الله تعالى، أو ضمير الفعل أي : الوكز « فَقَضَى عَلَيْهِ » أي : أماته، وقتله، وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل، و ﴿ قَالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ فقوله :« هذَا » إشارة إلى القتل الصادر منه، و ﴿ مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ أي : من وسوسته وتسويله.
فصل
احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه :
أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك، فإن استحق القتل فلم قال :﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ ؟ ولم قال :﴿ ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ ﴾ ؟ وقال في سورة أخرى ﴿ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ]. وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً.
وثانيها : أنَّ قوله :﴿ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ يدل على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً، فَلِمَ استغفر عنه؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً.