قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه... ﴾ لما بين التكليف، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾، فذكر من الذين كلفوا قبله نوح عليه ( الصلاة و ) السلام وقومه، وإبراهيم عليه ( الصلاة و ) السلام وغيرهما.
قوله :« ألْفَ سَنَةٍ » منصوب على الظرف ﴿ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ﴾ منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه جواب عن هذه الآية، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول « سنة »، وفي « الثاني » عاماً، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - ﷺ - لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة.
فصل
قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل : لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال : عليّ سبعة، إذا علم هذا فقوله :﴿ ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴾ كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب، فإن من قال : عاش فلان ألفَ سنة ( يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة ) تقريباً لا تخفيفاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية : هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه ( الصلاة و ) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه ( الصلاة و ) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ ( دُعَائِهِ ).
قوله :« فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ » فغرقوا « وَهُمْ ظَالِمُونَ » قال ابن عباس : مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله :« وهم ظالمون » يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.
قوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطوفان ﴾ يعني من الغرق، « وجعلناها » يعني السفينة « آية للعالمين » أي عبرة، وفي كونها آية وجوه :
أحدُها : كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة.
وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد ( نُضُوبَه ). ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.
وثالثها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصل النجاة، وقيل :« الهاء » في « جَعَلْنَاهَا » راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.