قوله تعالى :﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ ﴾، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه ( الصلاة و ) السلام عنه تعالى :« سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي » ؛ لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده، وهذا يحقق قوله عليه ( الصلاة و ) السلام عنه :« سبقت رحمتي غضبي »، وذلك ان الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب، لم يخصه بالذكرن بل ذكر الرحمة معه، فإن قيل : إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي، وتفريح المؤمن، فلو قال : يعذب الكافر ويرحم المؤمن لَكَانَ أدخل في تحصيل المقصود.
وقوله :﴿ يعذب من يشاء ﴾ لا يرهب الكافر، لجواز أن يقول : لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي.
فالجواب : هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته، وأنه إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال : يعذب العَاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، وإذا لم يبعد هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن ( لا ) يحصل في صولة أخرى.
ومثاله إذا قيل : إن الملك يقدر على ضرب المخالفين، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال : من خالفني أضربه يقع في وهم المخطاب أنه لا يقدر على ضرب المطيع، فلا يقدر أيضاً عليّ ( لكوني مثله )، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً.
قوله :« وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ » أي تُرَدُّونَ، ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء ﴾ والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء، قال الفراء معناه : ولا من في السماء بمعجز ( أنْ عَصَى ) كقول حَسَّانَ :

٤٠٢٨ - فَمَنْ يَهْجُوا رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أراد : ومن يمدحه وينصره، فأضمر « مَن » يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء يعني ( على ) أن ﴿ من في السموات ﴾ عطف على « أنتم » على أصله، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ، ويبقى صفته.
قال قطرب : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول القائل :( لا ) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى ﴿ إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض ﴾ [ الرحمن : ٣٣ ]، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين؛ أي ) وما أنتم مبعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها ( و ) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم.


الصفحة التالية
Icon