فإن قيل : ما مناسبة قوله :« إنا منجوك » لقوله :﴿ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ﴾ فإن خوفه ما كان على نفسه.
فالجواب : أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا : لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنّنا ملائكة. ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابل حزنك نزيل حزنك، ولا نتركك تفجع في أهلك، فقالوا :﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾.
فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك. فكيف كانت من الغابرين معهم؟
فالجواب : أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، ثم إنهم بعد بشارة « لوط » بالتنجية ذكروا أنهم مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية العذاب.
واختلفوا في ذلك، فقيل : حجارة، وقيل : نار، وقيل : خَسْف، وعلى هذا يكون قولهم :﴿ رِجْزاً مِّنَ السمآء ﴾ بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على ( نمط ) كلامهم مع إبراهيم، فقدموا البشارة على إنزال العذاب، فقالوا :« إنا منجوك » ثم قالوا :« إنا مُنْزِلُونَ » ولم يعللوا التنجية، فلم يقولوا : إنا منجوك لأنك نبي أو عابدٌ، وعللو الإهلاك، فقالوا :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ كقولهم هناك :﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾.
قوله :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَة ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أن بعضها « باقٍ » وهو آية باقية إلى اليوم، والمعنى تركنا من قريات ( قوم ) لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة.
الثاني : أن « من » مزيدة، وإليه نحا الفراء أي تركناها أية كقوله :
-٤٠٢٩ أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا... أي أمهرتها، وهذا يجيء على رأي الأخفش، أي ولقد تركنا القرية. والقربة معلومة، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك.
فإن قيل : كيف جعل الآية في « نوح » و « إبراهيم » بالنجاة فقال :﴿ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ العنكبوت : ١٥ ]. وقال :﴿ فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار ( إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ]، وجعل ههنا الهلاك آية.
فالجواب : أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنفي ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى الجبال بأسرها أمر عجيب غلهي وما به النجاة وهو السفقينة كان باقياً، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره، فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة « لوط » لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد، فجعل الآية ههنا البلاد، وهنا السفينة، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره موجودة في الإنجاء والإهلاك، فذكر من كل باب آية، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب، ورحمته سابقة.