وقرىء « لنثوينّهم » بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة، و « تجري » صفة « لِغُرَفاً » ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾ وهذا في مقابلة قوله للكفار :﴿ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٥ ]
قوله :« الَّذِينَ صَبَرُوا » يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت، والمعنى : الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ يعتمدون. قوله :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ جوز أبو البقاء في « كأين » وجهين :
أحدهما : أنها مبتدأ و « لا تحمل » صفتها و « الله يرزقها » خبره و « من دابة » تبيين.
والثاني : أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره « يرزقها » ويقدر بعد « كأين » يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر ( متى كان ) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة « هود » عند قوله :﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ﴾ [ هود : ٨ ].
فصل
لما ذكر الله ﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن ( في ) كأين ( أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى « وكِيءَ » على وزن « رِيعَ » و « كَا » على وزن « رع » ولم يُقْرأ إلا كائن و « كا » قراءة ابن كثير.
فصل
« كأين » كلمة ) مركبة من « كاف التشبيه » و « أن » التي تستعمل استعمال « مَن » و « ما » ركبتا، وجعل المركّب بمعنى « كم » ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن « كأيّ » مستعمل غير مركب كما يقول القائل :« رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ » ( فقد حذف المضاف إليه، ويقال : رأيت رجلاً لا كأي رجل ) وحينئذ لا يكون « كي » مركباً. فإذا كان « كأي » ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، ( كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين ( ثَمَّتَ ).
فصل
روي أن النبي - ﷺ - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ﴾ وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و ﴿ لا تحمل رزقها ﴾ لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود ﴿ الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ حيث ما كنتم « وهو السَّمِيعُ » لأقوالكم : ما نجد ما ننفق بالمدينة، ﴿ العَلِيمُ بما في قلوبكم ﴾.