قوله :﴿ في أدنى الأرض ﴾ أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم. والغَلَبُ. والغَلَبَةُ « لُغْتَانِ » فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله. ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذو من مبني ( للمفعول ) على خلاف في ذلك. وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل، والفاعل محذوف تقديره : من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله.
قوله :« سَيَغْلِبُونَ » خبر المبتدأ، و ﴿ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ ﴾ متعلق به، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع - على سيغلبون مبنياً للفاعل، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثايناً بعد أن غلبوا أولاً، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية، وما ورد في الأحاديث، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ « غَلَبَتْ » مبنياً للفاعل، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ ( بذلك ). وقد خرج النحاس قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ، وهو أن المعنى : وفارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره.
قوله :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ متعلق بما قبله، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في « يُوسُفَ ». وقال الفراء : الأصل في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقامة ضرورة تدعو إليه، وقرأ ابن السَّمَيفَع وأبو حيوة غلبهم فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ.
فصل
قوله :﴿ في أَدْنَى الأرض ﴾ أي أرض العرب، لأن الألف واللام للعهد، والمعهود عندهم أرضهم. فإن قيل : أي فائدة في ذكر قوله :﴿ من بعد غلبهم ﴾ لأن قوله :« سيغلبون » بعد قوله :« غلبت الروم » لا يكون إلا من بعد الغلبة؟
فالجواب : فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله ( فقال ) من بعد غلبهم فيتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله، وقوله : في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك « الرومية » لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإن الله تعالى.
فصل
قال :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - ﷺ - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال : كَذَبْتَ فقال : أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ ( فقال اجعل بيننا ) أجلاً أن احبك عليه، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - ﷺ - فأخبره بذلك، وذلك قبل تحريم القُمَار، فقال رسول الله - ﷺ - : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر، وماده ( في الأجل ) فجعلها مائة قلوص، إلى تسع سنين، وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - ﷺ - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال ( أبيّ ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأطاه، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - ﷺ - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.