قوله :« بلقاء » متعلق « بالكافرين » واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر « إنَّ ».
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] ؟
فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا، إذا علم هذا فنقول ههنا ( الفعل ) كان منسوباً إلى السامع حيث قال :﴿ أو لم يتفكروا في أنفسهم ﴾ فقال :« في أنفسهم » يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله « سَنُرِيهِمْ » الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق، فإن لم يفهموه فالأنفس، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى :﴿ الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق.

فصل


وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن ( تخريب ) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله :﴿ وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ [ العنكبوت : ٦٤ ] ( وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق ) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس ﴾ وقال من قبل :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ؟.
فالجواب :( فائدته ) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد ( أن يؤمن ) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً، وقال قبله :﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه، والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم، وحكاية أشكالهم فقال :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وقال في الدليلين المتقدمين « أَوَلَمْ يَرَوا » « أَوَلَم يَتَفَكَّروا » إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض، وقال ههُنا « أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا » ذكرهم بحال أمثالهم، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك، لأن من تقدم من « عَادٍ وَثُمودَ » كانوا أشدّ منهم قوة، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ.


الصفحة التالية
Icon