فإن قيل : ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائلَ وذكر في أربعةٍ منها :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ [ الروم : ٢٤ ] ولم يذكر الأولى وهو قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الروم : ٢٠ ] ولا في الآخر وهو قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض ﴾ ؟.
فالجواب : أما الأول فلأن قوله بعده :﴿ ومن آياته أن خلق لكم ﴾ أيضاً دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد. فلما قال في الثانية :﴿ إن في ذلك لآيات ﴾ كان عائداً إليهما، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهور فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سَرْدِ الدلائل يكون أظهر ( فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر ). ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال :﴿ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ وجه العطف « بثم » و « بم تعلق » فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء.
قوله :« مِنَ الأَرْضِ » فيه أوجه : أظهرها : أنه متعلق بمحذوف يدل عليه « يخرجون » أي خرجتم من الأرض، ولا جائز أن يتعلق « بتَخْرُجُونَ » لأن ما بعد « إذا » لا يعمل فيما قبلها.
فصل
قَوْلُ القَائِل :« دعا فلانٌ فلاناً من الجبل » يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائلك يا فلانُ ( اصْعَدْ ) إلى الجبل، ( فيقال : دَعَاهُ من الجبل، ويحتمل أن يكون المدعوّ يُدْعَى من الجبل كما يقول القائل : يا فلانُ انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل )، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الرض إذا كان الداعي هو اللَّه، والمدعوّ يدعى من الأرض، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون، وَإِذا هي الفجائية، قال أكثر العلماء معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إِذا أنتم تخرجون من الأرض.
فصل
قال ههنا :﴿ إذا أنتم تخرجون ﴾ وقال في خلق الإنسان أولاً :﴿ ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ﴾ لأن هناك يكون خلقٌ وتقديرٌ وتدريجٌ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفُخُ فيه روحَه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريجٌ وتراخٍ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا :« ثُمَّ ».
قوله :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة. وقال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً. ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض ﴾ ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعاً، فلا شريك له أصلاً، ثم ذكر المدلول الآخر فقال :﴿ هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ يخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث.