فصل
معنى « ومَنْ تزكَّى » صلى وعمل خيراً « فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ » لها ثوابه « وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ » أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازرُ إنْ لم تظخر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى.
قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ استوى من الأفعال التي لا يكتفي فيها بواحد لو قلت : اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و « لا » في قوله :﴿ وَلاَ الظلمات ﴾ إلى آخره مكررة لتأكيد النفي وقلا ابن عطية : دخول « لا » إنما هو على نية التكرار كأنه قال : ولا الظلمات والنور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه؟ قال أبو حيان : وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استؤاءهما أولاً فأي فائدة في نفي استوئهما ثانياً؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال : فدخول « لا » في النفي لتأكيد معناه كقوله :﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ﴾ [ فصلت : ٣٤ ] وللناس في هذه الآية قولان :
أحدهما : ما ذكر.
والثاني : أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسان درجات متفاوتة وكذلك السيئات وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا في الظاهر؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. « والْحَرُورُ » شدة حر الشمس وقال الزمخشري : الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل قال شهاب الدِّين : وهذا مذهب الفراء وغيره. وقيل السموم بالهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن رؤبة. وقال : ليس بصحيح بل الصحيح ما قال الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ - عنه « وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاُْ » بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذا الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لم دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.