فإن قيل : إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزِّنا والشّرب ويكره ما يسخطُه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب : استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصلاح بقائه وبقاء نوعه ويعلها سبباً لفساد حاله ويدعوه بها إلى مالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سبباً لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميْل المريض إلى ( المصادر )، وذلك حيث ينحرف المِزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
قوله :﴿ وَأَنِ اعبدوني ﴾ أطيعوني ووحِّدوني ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ ما منع من عبادة الشيطان بقوله ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ أي خَلْقاً كثيراً.
قوله :« جبلاًّ » قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا وابنُ أبي إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العُقَيْلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء وقرئ جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ، كفِطَرٍ جمع فِطرَة وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل ( ثنتان ) وهي واضحة.
قال ابن الخطيب : الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع ( و ) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير، ولا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبيئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول : هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة بمعنى. والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع، لا لتفرق الجمع ( العظيم )
حتى قيل : ن دون العشر آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً قوله :﴿ أَفَلَمْ تَكُونُواْ ﴾ قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحةُ وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل، ومن حقهما أن يقرءا : ا لتي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ.

فصل


في كيفية هذا الإضلال وجهان :
الأول : تولّية عن المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو تولية فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية. ثم قال :« أفلم تكونوا تعقلون » ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم لما دَنَوْا من النار :﴿ هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ بها في الدنيا « اصْلَوْهَا الْيَوْم » أي ادخلوها اليوم « بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ اصلوها اليوم ﴾ أمر تنكيل وإهانة كقوله :


الصفحة التالية
Icon