والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون « من » شرطية وجوابها :« فَأَتْبَعَهُ » أو موصولة وخبرها « فَأَتْبَعَهُ » وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله :﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ ﴾ [ الغاشية : ٢٢، ٢٣ ] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل وعنهما أيضاً وعن عيسى : بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن ( أيضاً ) خطف كالعامة وأصل القراءتين اختطف فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره- فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم : نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد.
فصل
ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً « فأتبعه » أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل : سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ. وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله :﴿ فاستفتهم ﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ « أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا » يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقوله :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ] ( وقيل : معنى ) أَمَّنْ خَلَقْنَا ( يعني ) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله :﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي « أَمْ » المتصلة عطف « من » على « هم » وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و « مَنْ » مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى « بمن » قوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ : لاَزمٌ لأنه يلزم اليد، وقيل : اللازِبُ اللَّزج.